ذهبت إلى فرع المصرف بالشركة مع أحد الزملاء، وعند خروجنا وجدنا سيارة خلف سيارة زميلي متوقفة في وسط الطريق وتغلق عليه منفذ خروجه، تضايق زميلي ولم يُكمل تعبيره عن تضايقه حتى جاءه رجل رشيد اشتعل رأسه شيباً، وسأله إن كان هناك مالاً قد نزل في الحسابات، وأجابه صاحبي بالنفي، ولكن الرجل دلف إلى داخل المصرف ليتأكد لأن شعاره (ما نامن للحي كويت ايدي)، وأخذ الزميل يدور في مكانه لا يلوي على شيء، ثم قال لي تعال إلى حيث الأخلاق الرفيعة وهو يريد أن يريني شيئاً، ففوجئت ببطاقةٍ معلقةٍ على مرآة الرؤية الخلفية داخل تلك السيارة، وقد كتب صاحبنا عليها عبارة (شكراً لحسن أدبك)..
إلى هنا والأمر طبيعي ونصحت صاحبي بالصبر، فما لبث غير قليلٍ حتى خرج ذاك الرجل
الطيب من المصرف، وهو يتمتم بكلماتٍ لم أسمعها جيداً، فقد كان هو نفسه صاحب تلك السيارة التي سدت علينا منافذ الخروج إلى رحمة الله وسعته.. فعلاً (أُحييه على صحة وجهه وقلة أدبه)..
وبعد أن استشاط صاحبي غيظاً كبته بصعوبة، قال لي: أليس جرماً أن يُسمح بإدخال سيارات العاملين للشركة!!..
قلت له لتبدأ أنت أولاً واركن سيارتك خارجاً..
قال لي إذا كان ولابد فليكن على الجميع..
وإلى هنا توقفت عن الحديث حتى لا أدخل في جدالٍ ليس من وراءه طائل، خاصةً مع أناسٍ لا زالوا حديثي عهدٍ بالحرية ولا يعرفون طعمها لأنهم لم يتذوقوه..
في نفس اليوم خرجتُ مع صديقٍ آخر من البوابة (5)، وقال زميلي للموظف سنخرج لبرهةٍ من الزمن ثم نعود، فرد ذلك الموظف بانشراحٍ ليدلل على أنه حافظٌ لدرسه لا يخطيء ولا ينسى: ولكن العودة من البوابة (3).. قالها مبتسماً..
عند الخروج وجدنا سيارة (أمن) معرضة في منعطف البوابة الخارجي، وبداخلها أحد أفراد الأمن..
عند عودتنا قلت لصاحبي أريد الدخول من البوابة (5) حتى لا أُهدر كرامتي كما يريد رأس الشركة ومن والاه..
تعجبتُ -ولا عجب- بوجود تلك السيارة في مكانها وبداخلها ذلك الموظف، لم يتحركا وكأنهما على ثغرةٍ من ثغور الأمة..
تذكرت حينها ما ألقاه علينا الدكتور أحمد شنبش في أولى محاضراته عن نظم إدارة الجودة بالشركة، عندما قال لنا: إن جودة الشركة تبدأ من بوابتها، وحكى لنا كيف أن أحد الضيوف أراد أن يزور معه مركز البحوث في تاجوراء، وعند البوابة رفض رجل الأمن دخوله، فأضطر الدكتور أحمد إلى الاتصال بأحد المدراء لِيُسمح للضيف بالدخول، وقال إن مثل هذه المواقف والظواهر تجعل مدققي نظم الجودة يفكرون ألف مرةٍ قبل أن تمنح لمثل هذه المؤسسات أي شهادة في الجودة..
إن منظر السيارة وذلك الموظف المسكين بداخلها، والذي جعل منه بعض ضيقي الأفق ومتخلفي العقليات مضحكةً ومسخرةً لكل من هبَّ ودبَّ، إذ أن المكان ظاهرٌ وبارزٌ لكل من يسلك ذلك الطريق..
ولكن للأسف الشديد أن رؤوس الشركة لا يرعون للموظف حُرمةً ولا كرامة، فموظف الأمن الذي تفتقده جهاتٍ أهم وأخطر من بوابة الشركة، وجد نفسه في هذا الموقف المُحرج، والعامل الذي يخرج من الشركة ويريد أن يعود إليها أو جاء متأخراً لا يستطيع أن يحفظ كرامته كإنسان، بل لابد أن يسلك طريقاً يُسْخَرُ فيه منه ويُستهزأ به، إرضاءً لمزاج بعض المدراء والرؤوس الذين هيمنوا على الشركة وسيطروا عليها في غفلةٍ من الزمن..
يا أيتها الرؤوس...
إن المعيار ليس خنوع العاملين وذِلتهم، بل إن المعيار فوقكم ولكنكم لا تبصرونه أو لا تريدون أن تبصروه، رغم أنكم طفتم العالم ورأيتم الشركات والمصانع الحديثة وكيف تُدار، وحُزتم الشهادات العُلى..
لا تحكمونا بعقلياتٍ متخلفة وأفكارٍ طرحها مكيافيللي وبال عليها الزمن، إرضاءً لأمزجتكم وخوفاً من خسارة مِنَحَكُم ومزاياكم ...
لا تضحكوا علينا بحجة مصلحة الشركة العليا، ولا توهمونا باستماعكم للملاحظات وترحيبكم بالمقترحات، فَجُلُّ أعمالكم وقراراتكم وتصرفاتكم تصب في خراب الشركة ودمارها، ونعلم أخيراً ومن قبل ومن بعد، أن مناوراتكم الفاشلة ليست إلا محاولات لتشتيت الأنظار وإلهاء العقول عن قضايا أهم وأكبر وأخطر..
وفي هذا وذاك فإن صمت وزارة الصناعة "المريب"، وإهمالها ولا مبالاتها بالشركة وإلى أي هاوية سحيقة تنهار إليها، يضع الكثير من علامات الاستفهام حول المتصدرين لهذه الوزارة الهزيلة، وأهدافهم المخبوءة المشبوهة..
ولا زلنا نقول إن جبل الجليد لا يظهر منه إلاّ سُبْعُ حجمه..
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }..*
ولا تؤاخذونا بسلاطة القلم.. فلقد بلغ السيل الزُبى..
----------------------------------------------------------
* يقول القرطبي ـ رحمه الله ـ : " هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق