من على أريكتي الوتيرة، وأمامي فنجان قهوة من ستاربكس، داعبت أناملي لوحة مفاتيح الحاسوب المحمول، ودخل بسرعة البرق على الشبكة العالمية التي يتوفر الوصول إليها أينما حللت أو نزلت، ومجاناً، فدولتنا الجديدة تشجع على استعمال الشبكة في كل شؤون الحياة..
تذكرت أن أخي طلب مني أن أحضر له ما يفيد بسنوات عمله لدى الشركة الليبية للحديد والصلب في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وأعطاني مستنداً يثبت أنه أحد العاملين بالشركة، حيث ترك العمل منذ حوالي ربع قرن، بعد أن تهدد حياته وحش الخدمة الوطنية وتمثلت أمامه مشاهد حرب تشاد الكارثية..
فقلت في نفسي لأجرب هذه الخدمة المجانية التي أتاحتها لنا حكومتنا الفتية التكنوقراطية، ودخلت موقع الشركة الذي أبهرني بطلته البهيجة وتنسيقه الرائع، ولم يطل بي الإعجاب كثيراً حتى اخترت من بين أزرار الموقع زراً معنوناً بـ "الإدارة الإلكترونية"، نقرته بفأرتي فانسدلت منه قائمة بها عدة خيارات..
اخترت من القائمة "خدمات شؤون الأفراد" فأخرج لي عدة "ألسنة" اخترت منها " "نموذج طلب عام"..
قمت بتعبئة البيانات التي تشمل الاسم كاملاً ورقم الملف ونوع الخدمة المطلوبة وعنوان البريد الإلكتروني..
للأسف، بعد أن استكملت تعبئة النموذج ظهرت رسالة "الاسم ورقم الملف غير متطابقين" ومعها أزرار "إعادة المحاولة" أو "إلغاء الأمر"..
تبين لي أنني أخطأت في كتابة الاسم بسبب التنسيق في الحروف فـ " عبدالله" خطأ و "عبد الله" صح..
أخيراً .. تمَّ لي ما أردت.. وظهرت رسالة تحمل رقم المعاملة، وعبارتها تقول "احتفظ برقم المعاملة وأبرزه للموظف المختص في استعلامات الإدارة"..
ذهبت صباحاً إلى محطة الشركة القريبة من منزلي حيث وضعت "كابينة" أنيقة مصنوعةٌ من "الستانليس ستيل والزجاج والألومينيوم اللماع" بها كراسي مريحة كالتي توجد في مطار "مصراتة" الدولي الجديد، وأمام "الكابينة" رُكزت علامة تحمل رقم المحطة وشعار الشركة على عمود فخم..
لم أنتظر طويلاً حتى توقفت أمامنا حافلة عصرية يقودها سائق مدرب تدريباً راقياً في إحدى الدول المتقدمة، ومعه مساعده الذي يقوم على راحة الركاب والمحافظة على جلوسهم في أماكنهم حسب الأولوية والنظام المتبع في طائرات الخطوط الجوية.
على أصوات الموسيقة الهادئة وصلنا إلى مقر الشركة، ودلفت فوراً إلى استعلامات "إدارة شؤون الأفراد" حيث قابلني موظف الاستقبال بابتسامةٍ واسعة أغرتني بتقديم رقم المعاملة له، فما لبث أن أخرج الورقة المطلوبة في ظرفٍ فاخر.. وودعني بمثل ما استقبلني به من ابتسام وحفاوة..
فجأةً..
سمعت أحدهم يلقي علي السلام.. فانتبهت.. و رددت عليه السلام مشفوعاً بالرحمة والبركة..
فقد كان كل ما ذكرته لحظة حلمٍ راودتني في المقعد الوتير في بهو الاستقبال بمقر الشركة..
فانتهزت الفرصة وأخبرته بما جئت من أجله، فقال لي أنه لابد من استحراج "إخلاء طرف" حتى تحصل على المطلوب، ويجب أن تتقدم بطلب لنيل المرغوب..
فقلت: إن أخي قد ترك العمل بالشركة منذ ربع قرن، ولم نسمع عن بلاغ يطالبه بشيء يخص الشركة، سواءٌ في وسائل الإعلام أو الجهات الأمنية التي تخرج الخبء في الأرض، أو مختار المحلة..
وقلت كذلك: كان يمكن أن يدخل رقم ملفه فقط في منظومة المعلومات "العظيمة" فيتبين ما له وما عليه..
وتركني في حيرتي أتخبط..
وفي نفسي ثرت على كل المباديء والقيم التي رضعتها في طفولتي وشبابي وتمنيت لو أني صرت "بلطجي" أو "فتوة" أو "قبضاي" لأستحرج هذه الورقة اللعينة من "قلب" كل متكبرٍ جبار..
خرجت يائساً مُحبطاً أجر أذيال الخيبة والهزيمة..
وقلت لصاحبي الذي رافقته: إن الثورة تحتاج إلى ثورة..
فالعقليات كما هي..
لا رجولة ولا شخصية ولا تحضر..
بل جمودٌ وتحجر وتخلف..
..................................................................................................
هذه مقالة رمزية وفيها استطراد كثير يفوق الواقع فعذراً لمن مسه شيءٌ منها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق