جاءت ثقافة الأسوار مع الانقلاب السبتمبري المتلاشيء، لترسخ عقلية قراصنة ليبيا الجدد، وانسحبت هذه العقلية على كل شيء في البلد..
وهذه العقلية تسلتزم في أساسها الشك والاتهام لكل ما هو وطني، فتعالت الأسوار بدءًا من معسكرات الجيش إلى معتقلات وسجون الأمن وأسوار المدارس والبيوت وحتى "المقابر"..
فانعدمت الثقة بين القراصنة الجدد والشعب أولاً، ثم بين أفراد الشعب أنفسهم ثانياً..
وكلما زاد عمر تلك الفوضى، تناقص معها طردياً معدل الثقة وازداد ارتفاع الأسوار وقوتها وانتشارها..
والشركة الليبية للحديد والصلب ليست استثناءً في هذا، فتعاقب على مسك زمام أمرها ثلةٌ من الموثوق فيهم من أعضاء مكتب الإتصال باللجان الغوغائية، الذي يعد مرجعاً في تلك الثقافة الجهنمية..
حيث أن الشركة تعتبر "ثكنةً" أو "معتقلاً" يصعب الدخول إليه أو الخروج منه، إلاَّ بأوامر تشبه "الأوامر" العسكرية -إن لم تكن فاقتها نذالةً-، ودخلت بالتالي ضمن سياسة الاعتقال الجماعي "الطوعي" لأكبر عدد ممكن من الليبيين لأطول فترة ممكنة من الوقت..
والناظر إلى خطط الموازنة التقديرية لسنة 2006 و 2007م. يلاحظ كثرة مشاريع "الأسيجة" داخل وخارج الشركة، ومن قبلها السياج الذي تم تنفيذه حول القرية السكنية بقصر أحمد، والذي بلغت تكاليفه لوحده أكثر من (نصف مليون) دينار، ومن بعدها سياج صغير حول محطة توزيع المواد بين مصنعي الصلب..
كل هذه المشاريع ليست ذات جدوى، ولا فائدة منها، والأنكى أن تعطى أولوية شديدة واهتمام زائد عن أولويات تتقدم على البديهيات في مفهوم العقلاء..
والمضحك -المبكي- أن أغلب هذه الأسوار أو الأسيجة إما "سور حول سور" أو "سور داخل سور"..
ومن البديهي أن يتفنن مخططوا المشاريع ودهاقنة الفكر الاستعبادي بالشركة في إبداع هذه الأسوار، مع تطور الزمان وتحسن أساليب الحصار..
ولكن الأمر جاء عكسياً بالنسبة لتطور فن البناء وطردياً مع التخلف والانحطاط..
فقد استخدم المقاول المنفذ لسور المجمع الرئيسي تقنية الصب المسبق والتركيب السريع لمكونات السور، حيث بنيت الأساسات الخرسانية في مواضعها، تزامناً مع عمليات تصنيع بقية الوحدات في ورش عمل المقاول، ثم تم جلب المكونات وتركيبها بكل دقة وسرعة..
كان السور مكوناً من (5) ألواح خرسانية وأعمدة وقفلة مسبقة الصب (precast concrete)، وهو بذلك قد وفر الوقت والجهد والتشطيب والطلاء..
ثم، واتساقاً مع العقلية التحجيرية، قام مدير الشركة الأول بتوقيع عقد إنشاء البوابة رقم (5) ليتطور التخطيط والأداء، ويصبح عدد الألواح الخرسانية (2) فقط بدل (5)..
وكان المقاول المنفذ للأسوار السابقة شركة أجنبية كذلك..
ولكن، بعد سنوات، واستمراراً للسياسة والعقلية إياها والتي يتوجها شعار "أبداً".. حدث انتكاس في فن بناء "الحضائر" بعد أن أسندت مهمة البناء لمغامرين ليبيين، حيث كانت التصميمات التي يضعها أساطين التعمير في إدارة المشروعات والمدينة السكنية، متناغمة مع الانحدار التي تسير فيه البلاد..
فرأينا تصميمات تتبنى الطابوق/الطوب "البومشي" مبدأً، لا يمكن التفريط فيه أو التنازل عنه، وأصبح القاطع الذي بطول (2) متر وارتفاع (2) متر يتكون من (50) قطعة بدلاً من (5) أو (2) قطع، إضافة إلى احتياجه للتشطيب والتكسية أو الطلاء..
وأنا هنا أدين العقليتين..
العقلية الاستعبادية الاستبدادية التي تنظر للبشر بتوجس وخيفة وعدم ثقة، وتتبنى سياسة المعتقلات والسجون والمعسكرات..
والعقلية التصميمية المتخلفة التي تبنت طريقة البناء تلك، رغم أن القائمين عليها أكثر الناس التصاقاً واحتكاكاً بالمقاولين الأجانب الذي نفذوا المجمع ككل..
وأقول للذين يتحدون بتقديم الحلول بدل الانتقاد..
يجب إزالة كل هذه الحضائر التي لا تليق إلاَّ بالبهائم العجماوات، حماية لهن..
أما البشر فقد جعل الله لهم أسيجة في رؤوسهم تسمى "العقول" وفي خارجها تسمى "القانون"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق