الجمعة، 27 يوليو 2012

التجربة اليابانية في الشركة الليبية للحديد والصلب..


في جلسة مع فنيي قسم الصيانة الميكانيكية، تطرق بنا الحديث عن العدد والمعدات التي يؤدون بها أعمالهم، وشكى هؤلاء الإخوة من رداءة النوعيات التي توفرها الشركة، وكذلك انعدام المعدات الحديثة المطلوبة في أعمال الصيانة..
ذكرني هذا بالأقاويل التي كانت تحكى عن أحد رؤوس الشركة السابقين، كلما طالبنا بتحسين نوعية العدد والمعدات والأدوات، فقد كان يقال إذا كان أمين لجنة الإدارة يتدخل في اختيار نوعية أقلام الحبر الجاف، ولا يتخير إلاَّ أرخصها ولو كانت لا تكتب، فكيف تطالب الشركة بتوفير عدد ومعدات أصلية وليست صينية مقلدة، تتلوك عند العمل بها كما تتلوك العلكة أو الصلصال؟؟..

وكنت كثيراً ما أستذكر العمال اليابانيين وعقيدة شركاتهم في العمل، فأقول للعاملين عندنا إن الشركة اليابانية تتعامل مع العمل كـ "جبهة قتال"، والجبهة تحتاج إلى جندي مجهز تجهيزاً تاماً، بحيث لا يعوزه شيء عند خروجه للقتال..
والحقيقة أن أحلى وأغنى الأيام التي قضيناها في الشركة الليبية للحديد والصلب، هي الأيام التي كنا نعمل فيها مع الشركة اليابانية المنفذة لمصانع الدرفلة الطولية، وهي شركة كوبي للصلب المحدودة (Kobe Steel Ltd.,Co.)، حيث كنا نستمتع بالعمل ولا نضجر منه، وفي تلك الفترة نشأت فرقة من العاملين الذين تلقوا تعليمات عملهم الأولى من مشرفي هذه الشركة، فلم تزل تلك التعليمات راسخةً في عقول هذه الثلة القليلة الذين قامت على أكتافهم الدرفلة الطولية.
إلاَّ أن الانحراف الذي حدث بسبب سوء إدارة المسؤولين الذين تعاقبوا على إدارة الدرفلة الطولية، غَيَّرَ الكثير من عقليات هؤلاء العاملين، ونجح أولئك المسؤولين في ترويضهم على الإهمال واللامبالاة وعدم الالتزام بمعايير العمل التي وضعها المقاول، وأهملوا تدريبهم ومواصلة تعليمهم، فضيعوا على الشركة "بذرة" مؤهلة لتغرس في البلاد أصول الإدارة الصناعية الحديثة. 
كنا نرى كل صباح حافلات العمالة -وهم من جنسيات مختلفة- وهي تأتي في موعدها المحدد، ثم ينزل منها هولاء المستخدمين ويصطفون أمام إدارة الشركة بالموقع، بحيث يكون اصطفافهم كالفصائل العسكرية، وأمام علم الشركة ومنصة يقف عليها أحد المسؤولين بالشركة يقوم هؤلاء بحركات رياضية هي للرقص والتمايل أقرب، على موسيقى يابانية هادئة مع صيحات تشجيعية من ذلك المسؤول، ويستمر هذا النشاط لمدة 5 دقائق، ثم عند الانتهاء يطلق الجميع صيحةً قوية مع مد قبضة اليد إلى أعلى..
بعدها يلقي أحد المسؤولين كلمةً يحدد فيها أهداف يوم العمل، ويجدد نصائحه وتوجيهاته لهم، ثم ينفض الجمع ويتفرق على حلقات، كل حلقة لها مشرفها الذي يعطي تعليمات العمل، وينصرف الجميع في همة ونشاط..
وكانت هناك ملصقات على جدار مكتب إدارة المشروع بالموقع، هذه الشعارات يؤلفها العاملون بأنفسهم، وتكتب أسماءهم على تلك الشعارات اليومية، التي عادةً ما تكون نصائح وإرشادات في مجال العمل والحياة..
الملفت للنظر حقاً، أن كل عامل -وخاصة اليابانيين منهم- مجهزٌ بكامل العدد والأدوات التي يستلزمها عمله المكلف به، وكان المشرفون يتميزون بزيادة مهمة وهي أدوات القرطاسية. فكل مشرف كانت له عدة كتابة كاملة، من أقلام الكتابة بالحبر أو الرصاص ذي الزر، وأقلام التوضيح مختلفة الآلوان، و"شبلونة" للرسم ومسطرة من الحديد الغير قابل للصدأ، وقدمة صغيرة وآلة حاسبة في حجم البطاقة، ومفكرة فنية للمعلومات وكتابة الملاحظات..
كل تلك العدد والأدوات صناعة يابانية أصلية، فكانت في غاية الجودة، حتى أننا رأينا عندهم ماسحات يدوية تمسح أسطر الكتابة أو الرسم، ثم تعيد طبعها على ورقة أخرى، وكانت عندهم طابعات على شكل قضيب مربع تثبت في جهاز الكومبيوتر المحمول وتطبع منه مباشرةً.
كان كل ذلك وأكثر منه كالسحر والخيال الذي نسمع عنه..
وعندما يقف العامل الياباني فأنت أمام جندي بكامل تجهيزاته، وكامل استعداده البدني والنفسي..
فالشركة لا تبخل بشيء على مستخدميها، ليقينها التام أن كل قرش يصرف عليهم، تجنى ثماره في جودة العمل وسرعة الإنجاز، وبذا يكون مردوده أضعافاً مضاعفة..
أما عن الأعمال الإدارية، فقد كان تقليد الشركة هو العمل الجماعي المفتوح، فلم تكن هناك حواجز بين الموظفين، الكل يعمل في صالة واحدة مفتوحة، لا توجد بها جدران ولا فواصل..
كان كل شيء بحساب، حتى الورق يعاد استخدامه في المراسلات الداخلية، ولا يتم التخلص منه إلا بعد استعماله من الوجهين..
كان نظام توزيع المياه والقهوة والشاي، يتم عن طريق خريطة وجدول محدد فيهما الأمكنة ونوع المشروب وكميته، بحسب الأشخاص وأذواقهم..
كان أمر الصرف من مخازن الشركة يتم بواسطة قسيمة صرف -نصف صفحة A4- لا يوجد بها سوى توقيعان، أحدهما لطالب المواد والثاني لمسؤول المخزن، قارن بينها وبين أحد عشر توقيعاً ينوء بها نموذج صرف شركتنا الموقرة، القائمة على انعدام الثقة بين العامل والإدارة..
هذا غيضٌ من فيض..
ولعل بعض الإخوة أقدر مني على تذكر تلك الأيام، لأنهم أكثر التصاقاً بنشاطات الشركة اليابانية..
تلك كانت بعض الذكريات، حاولت أن أضعها بين أيدي من يبحث عن معالي الأمور لا عن سفسافها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق